التحركات الإسرائيلية في سوريا- رسائل مُبطّنة وتحديات متزايدة

في فجر الثاني من شهر أيار الحالي، شنّ الجيش الإسرائيلي هجوماً جوياً على المناطق المحيطة بالقصر الرئاسي في قلب العاصمة السورية دمشق. وفي أعقاب هذا الاعتداء، أدلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ببيان رسمي بالاشتراك مع وزير الدفاع، أكد فيه أن هذه الغارة تحمل في طياتها رسالة صارخة إلى الحكومة السورية، مضمونها أن إسرائيل لن تتهاون إطلاقاً مع أي تهديد محتمل يمس أمن وسلامة الطائفة الدرزية.
وعلى الرغم من الطابع الرمزي الظاهري لهذه الضربة الجوية، إلا أنها تُعتبر، من حيث الأبعاد السياسية والاستراتيجية، واحدة من أشد الخطوات تصعيداً في سلسلة التحركات العدوانية التي تقوم بها إسرائيل على الأراضي السورية منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق بشار الأسد في الثامن من كانون الأول الماضي.
فهي، من جهة، بمثابة تهديد مبطن وموجه بشكل مباشر إلى الرئيس أحمد الشرع، وإشارة واضحة إلى أنه لا توجد أي حدود أو خطوط حمراء يمكن أن تمنع إسرائيل من المضي قدماً في مساعيها لتقويض أركان الحكم الجديد وإضعافه.
ومن جهة أخرى، تهدف هذه الضربة إلى تعزيز مصداقية الوعود التي تقدمها إسرائيل للدروز فيما يتعلق بتوفير "الحماية" لهم، خاصة بعد أن فشلت هذه الوعود في منع القوات السورية من دخول منطقتي أشرفية صحنايا وجرمانا الواقعتين على أطراف العاصمة دمشق في الأيام الأخيرة، كما لم تنجح في إعاقة الاتفاق الذي تم بين الحكومة السورية ووجهاء منطقة السويداء بشأن دخول الدولة إليها.
إن استهداف المناطق المحيطة بالقصر الرئاسي، جنباً إلى جنب مع الاستثمار الإسرائيلي المكثف في القضية الدرزية، والحديث الإسرائيلي المتواصل عن الأقليات الموجودة في سوريا وضرورة دعمها من قبل المجتمع الدولي، يندرج في إطار استراتيجية أوسع تهدف إلى اختبار قدرة الرئيس أحمد الشرع على اتخاذ القرارات والتحرك تحت وطأة الضغوط المادية والمعنوية التي تمارسها إسرائيل على سوريا، وكذلك اختبار مدى استعداد الشعب السوري لتحمل تكاليف مشروع الدولة الموحدة، في الوقت الذي تحاول فيه إسرائيل استغلال "ملف الأقليات" كورقة ضغط على الحكومة السورية في دمشق.
وبالتالي، فإن التحدي الذي تفرضه إسرائيل على سوريا لا يقتصر فقط على احتلال أجزاء جديدة من أراضيها، أو على محاولة إحداث فتنة وشقاق بين الدروز والدولة السورية، وتحريض مختلف المكونات السورية ضد الدولة، بل يشكل أيضاً تهديداً وجودياً لسوريا ككيان موحد، ولعملية التحول السياسي فيها، كما يمثل تحدياً كبيراً لتركيا، التي تضع كل ثقلها السياسي والدبلوماسي خلف الرئيس الشرع والحكم الجديد لإنجاحه؛ لأنها ترى في سوريا الموحدة والمستقرة ضرورة جيوسياسية لا تقبل المساومة، وتعتبر أن نجاح إسرائيل في فرض تصوراتها لسوريا كدولة مقسمة أو مجموعة من الفدراليات، يشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي ومصالحها الإقليمية.
ومع ذلك، فإن التحركات الإسرائيلية المتسارعة لا تعكس بالضرورة وضعاً مريحاً لإسرائيل في الساحة السورية، بل تكشف عن نقاط ضعف جوهرية في هذا الوضع بقدر أكبر من نقاط القوة المفترضة.
فمن جهة، تواجه إسرائيل معضلة كبيرة تحد من قدرتها على الاستثمار في القضية الدرزية، وتتجلى هذه المعضلة في وجود تيار وطني قوي داخل الطائفة الدرزية يرفض بشدة الأطروحات الانفصالية والصدام مع الدولة، ويعارض بشدة فكرة أن يكون الدروز أداة تستخدمها إسرائيل لتفكيك وحدة الأراضي السورية.
وقد عبّر هذا التيار الوطني عن نفسه بوضوح من خلال الاتفاق الذي توصل إليه وجهاء السويداء في الأول من أيار الجاري، والذي يقضي بدخول قوات الدولة إلى المحافظة ومنطقتي جرمانا وصحنايا الواقعتين على أطراف العاصمة دمشق.
وبدون وجود بيئة حاضنة ومؤيدة لها، لن تتمكن إسرائيل من إنجاح استثمارها في القضية الدرزية بالشكل الذي تطمح إليه، وفرض واقع خاص بها على الأرض. وهذا الوضع يضع إسرائيل أمام معضلتين رئيسيتين: الأولى تتمثل في انكشاف عيوب الاستثمار في قضية تعتبر مدخلاً رئيسياً لإسرائيل للتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا، والثانية تقويض مصداقية الوعود التي قدمتها للتيار الدرزي الذي يظهر في خطابه العام تماهياً كاملاً مع مشروعها السياسي في سوريا، والذي يتزعمه الشيخ حكمت الهجري.
ومن جهة أخرى، فإن الحكم الجديد في سوريا يعزز مكانته وثباته بشكل متزايد، وبدأ يحظى بقبول دولي واسع النطاق، مما يدفع إسرائيل إلى تغيير خطابها تجاه هذا الحكم، والاعتراف به باعتباره نظاماً قائماً وليس مجرد سلطة مؤقتة تديرها هيئة تحرير الشام.
وقد بدأت إسرائيل تستخدم هذا الخطاب حتى في رسائل التهديد التي توجهها إلى سوريا. علاوة على ذلك، لا تستطيع إسرائيل أن تتجاهل التوجه الأميركي العام الذي يبدي ميلاً واضحاً للتعامل مع الرئيس الشرع، وقد بدأ بالفعل في سياق تفاوضي معه، كما يولي أهمية كبيرة للتقاطعات الإستراتيجية في الأهداف والمصالح مع تركيا فيما يتعلق بالشأن السوري.
وقد عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوضوح عن هذه التقاطعات خلال اجتماعه الأخير مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض في الخامس من نيسان الماضي، عندما أبلغه بأن تركيا هي الدولة الأكثر تأثيراً في تشكيل مستقبل سوريا، وأن على إسرائيل أن تتحلى بالعقلانية في تعاملها معها، وهذا يعني أيضاً أن على إسرائيل أن تكون عقلانية أيضاً في الأهداف التي تضعها لنفسها في سوريا، بحيث تكون قابلة للتحقيق والتطبيق على أرض الواقع.
تجدر الإشارة إلى أنه منذ اجتماع ترامب ونتنياهو والشروع في مفاوضات بين تركيا وإسرائيل للتوصل إلى آلية فعالة لإدارة المخاطر المحتملة، شهد النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا تراجعاً ملحوظاً، ولم تسجل منذ الثاني من نيسان الماضي أي غارات إسرائيلية حتى الهجومين الأخيرين على دمشق.
إن هذه المؤشرات الثلاثة تشكل ضغطاً متزايداً على الإستراتيجية الإسرائيلية المتبعة في سوريا، وقد تدفع باتجاه إحداث تغيير جذري في هذا النهج، بما يتناسب مع الواقع السوري الحالي والتحولات الجارية فيه.
فالأهداف المفرطة في عدم الواقعية، لا تؤدي فحسب إلى إظهار نقاط الضعف الكامنة في الموقف الإسرائيلي، بل قد تتسبب مع مرور الوقت في إفراز نتائج عكسية تماماً لما هو مرجو منها.
ومع ذلك، يبقى من الضروري أن يضع الرئيس الشرع وتركيا في حسبانهما أن إسرائيل لن تتخلى بسهولة عن أهدافها الإستراتيجية في سوريا، حتى لو اضطرت إلى تعديل خطابها السياسي أو تغيير أساليبها التكتيكية. فهي تسعى جاهدة إلى إبقاء سوريا ضمن دائرة التوتر والضغط المستمر، لكي تتمكن من التحرك بحد أدنى من التكاليف الإقليمية والدولية المحتملة.